فصل: سورة الغاشية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة الطارق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والسماءِ والطارقِ‏}‏، عظّم تعالى قَدْر السماءِ في أعين الخلق؛ لكونها معدن رزقهم، ومسكن ملائكته، وفيها خلق الجنّة، فأقسم بها وبالطارق، والمراد‏:‏ جنس النجوم، أو جنس الشهُب التي يُرجم بها، لعِظم منفعتها، ثم عظَّمه ونوّه به، فقال‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الطارقُ‏}‏ بعد أن فخّمه بالإقسام به، تنبيهاً على رفعة قدره بحيث لا يناله إدراك الخلق، فلا بد من تلقَّيه من الخلاّق العليم، أي‏:‏ أيّ شيء أعلمك بالطارق، ثم فسّره بقوله‏:‏ ‏{‏النجمُ الثاقبُ‏}‏؛ المضيء، فكأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل، كما يُقال للآتي ليلاً‏:‏ طارق، أو‏:‏ لأنه يطرق الجنِّيَّ، أي‏:‏ يُصكّه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به كوكب معهود، قيل‏:‏ هو الثريا، وقيل زُحل، وقيل الجدي‏.‏

ثم ذكر المقسَم عليه، فقال‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ نفسٍ لمَّا عليها حافظٌ‏}‏، «إن» نافية، و«لمّا» بمعنى «إلاّ» في قراءة مَن شدّدها، وهي لغة هذيل يقولون‏:‏ «نشدتك الله لمّا قمت» أي‏:‏ إلاّ قمت، أي‏:‏ ما كل نفس إلاّ عليها حافظ مهيمن رقيب، وهو الله عزّ وجل، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ أو‏:‏ مَن يحفظ عملها، ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 10‏]‏ أو‏:‏ مَن يحفظها من الآفات، ويذب عنها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وكِّل بالمؤمن ستون ومائة ملك، يذبون عنه ما لم يُقدّر عليه، كما يذب عن قصعة العسل الذبابَ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» ثم قرأ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إن كل نَفْس‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ و«ما»‏:‏ صلة في قراءة من خفف، أي‏:‏ إنه، أي‏:‏ الأمر والشأن كل نفس لعليها حافظ‏.‏

‏{‏فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق‏}‏، لمّا ذكر أنَّ على كل نفسٍ حافظاً، أمره بالنظر في أوّل نشأته، وبالتفكُّر فيها حق التفكُّر، حتى يتضح له أنَّ مَن قَدَر على إنشائه من موادٍ لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويُجزى به، ولا يملي على حافظه ما يُرديه، فالفاء فصيحة تُنبىء عن هذه الجُمل، أي‏:‏ إذا علم أنَّ على كل إنسان حفظة يحفظونه من الآفات، أو يكتبون أعماله، خيره وشرها، دقيقها وجليلها، وأنه لم يُخلَق عبثاً، ولم يُترك سُدى، فلينظر في أول نشأته حتى يتحقق أنَّ له صانعاً، فيعبده ولا يشرك به شيئاً، ثم فسَّر أصل نشأته فقال‏:‏ ‏{‏خُلق من ماء دافقٍ‏}‏، فهو استئناف بياني، كأنه قيل‏:‏ مِمَّ خُلق‏؟‏ فقال‏:‏ خُلق من ماء دافق، والدفق‏:‏ صبٌّ فيه دفعٌ وسرعة، والدفق في الحقيقة لصاحبه، والاستناد إلى الماء مجاز، ولم يقل‏:‏ من ماءين؛ لامتزاجهما في الرحم واتحادهما‏.‏

‏{‏يَخرج من بين الصُلب والترائب‏}‏ أي‏:‏ صُلب الرجل وترائب المرأة، وهي عِظام صدرها، حيث تكون القلادة، وقيل‏:‏ العظم والعصب من الرَجل، واللحم والدم من المرأة، وقال بعض الحكماء‏:‏ إنَّ النظفة تتولد من فضل الهضم الرابع، وتنفصل عن جميع الأعضاء، حتى تستعد لأنّ يتولّد منها مثل تلك الأعضاء ومقرها عروق مُلتف بعضها على بعض عند البيضتيْن، فالدماغ أعظم معونة في توليدها، ولذلك كان الإفراط في الجماع يُورث الضعف فيه، وله خليفة هو النخاع، وهو في الصلب، وفيه شُعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المَني، فلذا خُصّا بالذكر، فالمعنى على هذا‏:‏ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها، وهو الأحسن، وبه صدر ابن جزي‏.‏

‏{‏إِنه‏}‏ أي‏:‏ الخالق، لدلالة «خُلِق» عليه، أي‏:‏ إنَّ الذي خلق الإنسانَ ابتداء من نُطفة، ‏{‏على رَجْعِه‏}‏؛ على إعادته بعد موته ‏{‏لقادرٌ‏}‏ بيّن القدرة‏.‏ وجِيء ب «إنّ» واللام وتنكير الخبر ليدل على رد بليغ على مَن يدّعي أنه لا حشر ولا بعث، حتى كأنه لا تتعلق القدرة بشيء إلاَّ بإعادة الأرواح إلى الأجساد، ‏{‏يومَ تُبلى السرائرُ‏}‏ أي‏:‏ تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال، ويتبين ما طاب منها وما خبث‏.‏ والسرائر‏:‏ القلوب، هو ظرف ل «رَجْعِه»، أي‏:‏ إنه لقادر على رده بالبعث في هذا اليوم الذي تُفضح فيه السرائر، ‏{‏فما له مِن قوةٍ‏}‏ في نفسه يمتنع بها ‏{‏ولا ناصرٍ‏}‏ ينتصر به ويدفع عنه غير الله تعالى‏.‏ ولمّا كان رفع المكان في الدنيا إمّا بقوة الأنسان، وإمّا بنصر غيره له، أخبر الله بنفيهما يوم القيامة‏.‏

الإشارة‏:‏ أقسم تعالى بقلب العارف، لأنه سماءٌ لشمس العرفان وقمرِ الإيمان ونجوم العلم، وبما يطرقه من الواردات الإلهية والنفحات القدسية ثم نوّه بذلك الطارق، فقال‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب‏}‏ أي‏:‏ هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل، إمّا جهل الشرائع أو جهل الحقائق‏.‏ إن كُلُّ نفس لمّا عليها حافظ، وهو الله، فإنه رقيب على الظواهر والبواطن، ففيه حث على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً‏.‏ فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق في عالم الحكمة من جهة بشريته خُلق من ماء دافق، يخرج من محل البول ويقع في محل البول، فإذا نظر إلى أصل بشريته تواضع وانكسر، وفي ذلك عِزُّه وشرفُه، مَن تواضع رفعه الله‏.‏ وفيه روح سماوية قدسية، إذا اعتنى بها وزكّاها، نال عز الدارين وشرف المنزلين «مَن عرف نفسه عرف ربه» فالإنسان من جهة بشريته أرضي، ومن جهة روحانيته سماوي، والحُكم للغالب منهما‏.‏ إنه على رجعه‏:‏ أي‏:‏ رده إلى أصله، حين برز من عالم الغيب، بظهور روحه، لقادر، فيصير روحانيًّا سماويًّا، بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا، وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء، ليقع الدواء عليها، فتذهب، فمَن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها، فما لها من قوةٍ على جهادها وإظهار مساوئها بين الأقران إلاّ بالله، ولا ناصر ينصره على الظفر بها إلاَّ مِن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والسماءِ ذات الرجع‏}‏ أي‏:‏ المطر، لأنه يرجع حيناً بعد حين، وسمَّته العرب بذلك تفاؤلاً، ‏{‏والأرضِ ذات الصَّدْع‏}‏ أي‏:‏ الشق، لأنها تنصدع عن النبات والأشجار لا بالعيون كما قيل، فإنَّ وصف السماء بالرجع، والأرض بالشق، عند الإقسام بها على حقيّة القرآن الناطق بالبعث؛ للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في التعبير عنه بالرجع والصدع، لأنَّ في تشقُّق الأرض بالنبات محاكاة للنشور، حسبما ذكر في مواضع من القرآن، لا في تشققها بالعيون‏.‏ ‏{‏إِنه‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏لَقَولٌ فَصْلٌ‏}‏؛ فاصل بين الحقّ والباطل، كما قيل له‏:‏ فرقاناً، وصفَه بالمصدر، كأنه نفس الفعل، ‏{‏وما هو بالهزلِ‏}‏ أي‏:‏ ليس في شيء منه شائبة هزل، بل كله جد محض، ومِن حقه حيث وصفه الله بذلك أن يكون مُهاباً في الصدور، معظماً في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه، ويهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب العُتاة‏.‏

‏{‏إِنهم‏}‏ أي‏:‏ أهل مكة ‏{‏يَكيدون‏}‏ في إبطال أمره، وإطفاء نوره ‏{‏كيداً‏}‏ على قدر طاقتهم ‏{‏وأكيدُ كيداً‏}‏ أي‏:‏ أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده، فأسْتدرجهم إلى الهلاك من حيث لا يعلمون‏.‏ فسمي جزاء الكيد كيداً، كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداءً وسيئة، وإن لم يكن اعتداءً وسيئة، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلاَّ على وجه المشاكلة، كقوله‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏ إلى غير ذلك ‏{‏فَمَهِّل الكافرين‏}‏ أي‏:‏ لا تدع بهلاكهم، ولا تشغل بالانتقام منهم، بل اشتغل بالله يكفِك أمرهم ‏{‏أمهِلهم رُويداً‏}‏ أي‏:‏ إمهالاً يسيراً، ف «أمهِلهم»‏:‏ بدل من «مَهِّل»، وخالف بين اللفظتين لزيادة التسكين والتصبير‏.‏ و«رويداً»‏:‏ مصدر أرود بالترخيم، ولا يتكلم به إلاَّ مصغراً، وله في الاستعمال وجهان آخران‏:‏ كونه اسم فعل، نحو رُويد زيداً، وكونه حالاً، نحو‏:‏ سار القوم رويداً، أي‏:‏ متمهلين‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أنَّ الحقيقة سماء، والشريعة أرض، والطريقة سُلّم ومعراج يصعد إليها، فمَن لا طريقة له لا عروج له إلى سماء الحقائق، فأقْسَم تعالى بسماء الحقائق، وأرض الشرائع، على حقيّة القرآن، ووصف الحقيقة بالرجع لأنه يقع الرجوع إليها بالفناء، ووصف أرض الشريعة بالصَدْع؛ لأنها تتصدّع عن علوم وأنوار تليق بها، ووصف القرآن بالفصل بين الحق والباطل، فمَن طلب الحق من غيره أضلّه الله‏.‏ ووصفه أيضاً بالجدّ غير منسوب لشيء من الهزل، فينبغي للقارىء عند تلاوته أن يكون على حال هيبة وخشوع، لا يمزج قراءته بشيء من الهزل أو الضحك، كما يفعله جهلة القراء‏.‏

ثم أمر بالغيبة عن الأعداء، والاشتغال بالله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَمَهِّل الكافرين أمهلهم رويداً‏}‏، قال بعض العارفين‏:‏ لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حرَّكه عليك ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بإذاية مَن آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لكفاهم أمرهم‏.‏ ه‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة الأعلى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏سَبّح اسمَ ربك‏}‏ أي‏:‏ نزّه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه، بالتأويلات الزائغة، وعن إطلاقه على غيره بوجهٍ يوجب الاشتراك في معناه، فلا يُسمى به صنم ولا وثن ولا شيء مما سواه تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ فلا يُقال لغيره تعالى‏:‏ رب وإله، وإذا كان أَمَر بتنزيه اللفظ فتنزيه الذات أحرى، أو‏:‏ نزّه اسمه عن ذكره لا على وجه الإجلال والإعظام، أو‏:‏ نزّه ذاته المقدَّسة عما لا يليق بها، فيكون «اسم» صلة‏.‏ و«الأعلى» صفة لرب، وهو الأظهر‏.‏ وعُلوه تعالى‏:‏ قهريته واقتداره، أو‏:‏ تعاليه عن سمة الحدوث وعن مدارك العقول، فلا يُحيط به وصف واصف أو علم عارف، لا علو مكان‏.‏ أو صفة للاسم، وعلوه بعلو مسماه، وقيل‏:‏ قل‏:‏ سبحان ربي الأعلى‏.‏ لمّا نزل‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ‏(‏74‏)‏‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 74‏]‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اجعلوه في ركوعكم» فلما نزل‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ قال‏:‏ «اجعلوه في سجودكم» وكانوا يقولون في الركوع‏:‏ لك ركعت، وفي السجود‏:‏ لك سجدت، فجعلوا هذا مكانه‏.‏

‏{‏الذي خلق فسَوَّى‏}‏ أي‏:‏ خلق كل شيء فسَوَّى خلقه، ولم يأتِ به متفاوتاً غير متلائم، ولكن على إحكام وإتقان، دلالةً على أنه صادر عن عالم حكيم، أو‏:‏ سَوَّاه على ما يتأتى به كماله ويتيسّر به معاشه، ‏{‏والذي قَدَّر فهدى‏}‏ أي‏:‏ قّدَّر الأشياء في أزله، فهدى كل واحد إلى ما سبق له من شقاوة وسعادة، ورزقٍ وأجل، أو‏:‏ ما قَدَّر لكل حيوان ما يُصلحه، فهداه إليه، وعرَّفه وجه الانتفاع به، فترى الولد بمجرد خروجه من بطن أمه يلتمس غذاه، وكذا سائر الحيوانات، فسبحان المدبِّر الحكيم‏:‏ ‏{‏الذي أخرج المرعى‏}‏ أي‏:‏ أنبت ما ترعاه الدواب غضًّا طريًّا، ‏{‏فجعله‏}‏ بعد ذلك ‏{‏غُثاءً‏}‏ يابساً هشيماً ‏{‏أحوى‏}‏؛ أسود، ف «أحوى» صفة لغُثاء، وقيل‏:‏ حال من المرعى، أي‏:‏ أخرجه أحوى من شدة الخضرة، فمضت مدة، فجعله غثاءً يابساً‏.‏ وهذه الجمل الثلاث صفة للرب‏.‏ ولمّا تغايرت الصفات وتباينت أتى لكل صفة بموصول‏.‏ وعطف على كل صلة ما يترتب عليها‏.‏

‏{‏سنُقرئك فلا تنسى‏}‏ أي‏:‏ سنعلمك القرآن فلا تنساه، وهو بيان لهدايته تعالى الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم، إثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته، وهي هدايته صلى الله عليه وسلم لتلقي الوحي، وحفظ القرآن الذي هو أهدى للعالمين، مع ضمانه له‏.‏ والسين إمّا للتأكيد، وإمّا لأنَّ المراد إقراء ما أوحي إليه حنيئذٍ وما سيوحى إليه، فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء، أي‏:‏ سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام، أو‏:‏ سنجعلك قارئاً فلا تنسى أصلاً، من قوة الحفظ والإتقان مع أنك أُمِّي لا تدري ما الكتاب وما القراءة، ليكون ذلك آية أخرى لك مع ما في تضاعيف ما تقرأ من الآيات البينات من حيث الإعجاز، ومن حيث الإخبار بالمغيبات‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاَّ ماشاء اللهُ‏}‏‏:‏ استثناء مفرغ من أعم المفاعيل، أي‏:‏ فلا تنسى شيئاً من الأشياء إلاَّ ما شاء الله أن تنساه؛ بأن ننسخ تلاوته، وهذا إشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي، فلا يتفلت منه شيءٌ، إلاَّ ما شاء الله نسخه، فيذهب به عن حفظه، ويرفع حُكمه وتلاوته‏.‏ قال الكواشي‏:‏ إلاَّ ما شاء اللهُ أن ننسيكه على سبيل النسخ، أو تنساه ثم تذكره بعد‏.‏ رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في الصلاة، فظنّ أُبي أنها نُسخت، فسأله، فقال‏:‏ «نسيتها»، قال الشيخ السنوسي‏:‏ والمحققون على منع النسيان لشيءٍ من الأقوال البلاغية قبل التبليغ، لإجماع السلف، وأما بعد التبليغ، فجائز؛ لأنه من الأعراض البشرية‏.‏ ه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنما أنا بشَرٌ، أنسى كما تَنْسَوْن، فإذا نسيتُ فذكِّروني» الحديث‏.‏ فالسهو في حق الأنبياء جائز، لأنه من قهرية الربوبية، لتتميز به العبودية من الربوبية، فليس بنقصٍ في حقهم، بل كما، ليحصل التشريع والاقتداء‏.‏ وقيل‏:‏ «لا» ناهية، وإثبات الألف للفاصلة، كقوله‏:‏ ‏{‏السبيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏ أي‏:‏ لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه، إلاَّ ما شاء الله أن ينسيك برفع تلاوته، وهو ضعيف‏.‏

‏{‏إِنه يعلم الجهرَ وما يخفى‏}‏ أي‏:‏ يعلم ما ظهر وما بطن، التي من جملتها ما أوحى إليك، فينسى ما شاء اللهُ إنساءه، ويبقى محفوظاً ما شاء إبقاءه، أو‏:‏ يعلم جهرك بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلُّت، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، أو‏:‏ ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان، وما تجهر به، أو‏:‏ يعلم ما أعلنتم وما أسررتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وما بطن من أحوالكم‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ السر والعلانية عنده تعالى سواء، إذا هو يبصرهما ببصره القديم، ويعلمهما بالعلم القديم، وليس في القِدم نقص، بحيث يتفاوت عنده الظاهر والباطن؛ إذ هناك الظاهر هو الباطن، والباطن هو الظاهر؛ لأنَّ الظاهر ظهر من ظاهريته، والباطن من باطنيته‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ونُيسّرك لليُسرى‏}‏، معطوف على «سنقرئك» وما بينهما اعتراض، أي‏:‏ ونوفّقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، وهي الشريعة السمحة التي هي أسهل الشرائع، أو‏:‏ نوفّقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين، علماً وتعليماً، هداية واهتداءً، فيندرج فيه تلقي الوحي والإطاحة بما فيه من الأحكام التشريعية السمحة، والنواميس الإلهية، مما يتعلق بتكميل نفس صلى الله عليه وسلم وتكميل غيره، كما يفصح عنه قوله‏:‏ ‏{‏فذَكِّر‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ وتخصيص التيسير به عليه السلام، مع أنه يسري إلى غيره، للإيذان بقوة تمكنه صلى الله عليه وسلم من اليسرى والتصرُّف فيها، بحيث صار ذلك ملكة راسخة له، كأنه عليه السلام جُبل عليها‏.‏

قاله أبو السعود‏.‏

الإشارة‏:‏ نزِّه ربك أن ترى معه غيره، وقدِّسه عن الحلول والاتحاد، قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ سبِّح ربك بمعرفة أسمائه واسبَح بسرّك في بحر عطائه، واستخرج من بواهر علوه وسناه ما ترفع به عند مدحه من ثنائه‏.‏ ه‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ أي‏:‏ نزِّه اسمه عن أن يكون له سميًّا، من العرش إلى الثرى، حتى يكون بقدس اسمه مقدساً عن رؤية الأغيار، ويصل بقدس اسمه إلى رؤية قدس الصفات، ثم إلى رؤية قدس الذات‏.‏ ه‏.‏ ‏(‏الأعلى‏)‏ فوق كل شيء، والقريب دون كل شيء، فهو عليٌّ في قربه، قريب في علوه، ليس فوقه شيء، وليس دونه شيء، الذي خلق؛ أظهر الأشياءَ فسوَّى صورتها، وأتقن خلقها‏.‏ والذي قدّر المراتب، فهدى إلى أسباب الوصول إليها، والذي أخرج المرعى، أي‏:‏ ما ترعى في بهجته وحسن طلعته الأرواح من مظاهر الذات، وأنوار الصفات، فجعله غثاءً أحوى، فتلوّن من طلعة الجمال إلى قهرية الجلال‏.‏ قال القشيري‏:‏ أخرج المرعى‏:‏ أي‏:‏ المراتع الروحانية لأرباب الأرواح والأسرار والقلوب، لِيَرْعَوا فيها أعشاب المواهب الإلهية والعطايا اللاهوتية، وأخرج المراتع الجسمانية لأصحاب النفوس الأمَّارة والهوى المتبع، ليرتعوا فيها من كلأ اللذات الحيوانية الشهوانية‏.‏ ه‏.‏ سنقرك‏:‏ سنلهمك من العلوم والأسرار ما تعجز عنه العقول، فلا تنسى، إلاّ ما شاء اللهُ أن تنساه، إنه يعلم الجهر، أي‏:‏ ما يصلح أن تجهر به من تلك العلوم، وما يخفى وما يجب إخفاءه عن غير أهله‏.‏ ونُيسرك للطريقة اليُسرى، التي تُوصل إلى الحضرة الكبرى‏.‏ قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ طريق السلوك إلى الله وهي الجذبة الرحمانية التي توازي عمل الثقلين‏.‏ ه‏.‏ فحينئذ تصلح للدعاء إلى الله والتذكير به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 19‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ‏}‏ الناسَ حسبما سَيّرناك له بما يُوحى إليك من الحق الهادي إلى الحق، واهدهم إلى ما فيه سعادتهم الأبدية كما كنت تفعل، أي‏:‏ دُم على تذكيرك‏.‏ وتقييد التذكير لِمَا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما كان يُذَكرِّهم ويستفرغ جهده في وعظهم، حرصاً على إيمانهم، فما كان يزيد ذلك لبعضهم إلاَّ نفوراً، فأمر عليه السلام أن يخص الذكر بمظان النفع في الجملة، بأن يكون مَن يُذَكِّره ممن يُرجَى منه التذكُّر، ولا يتعب نفسه في تذكير مَن لا ينفعه ولا يزيده إلاّ عتوًّا ونفوراً، ممن طَبع اللهُ على قلبه، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏قَ‏:‏ 45‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 29‏]‏ وقيل المعنى‏:‏ ذَكّر إن نفعت وإن لم تنفع، فحذف المقابل، كقوله‏:‏ ‏{‏تَقِيكُمُ الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، واستبعده ابن جُزي؛ لأنَّ المقصود من الشرط استبعاد إسلامهم، كقوله‏:‏ عظ زيد إن سمع منك، تريد‏:‏ إن سماعه بعيد، ونسب هذا ابن عطية لبعض الحُذَّاق، قلت‏:‏ الأَوْلى حمل الآية على ظاهرها، وأنه لا ينبغي الوعظ إلاّ لمَن تنفعه وتؤثر فيه، وأمّا مَن تحقّق عناده فلا يزيده إلاّ عناداً، والقرائن تكفي في ذلك‏.‏

‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى‏}‏؛ سيتعظ ويقبل التذكرة مَن يخشى الله تعالى ‏{‏ويَتجنَّبُها‏}‏ أي‏:‏ يتأخر عنها ولا يحضرها ولا يقبلها ‏{‏الأشقى‏}‏ الذي سبق له الشقاء أو‏:‏ أشقى الكفرة لتوغُّله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة‏.‏ ‏{‏الذي يَصْلَى النارَ الكبرى‏}‏ أي‏:‏ الطبقة السفلى من طبقات جهنم، وقيل‏:‏ الكبرى نار جهنم، والصغرى‏:‏ نار الدنيا، لقوله عليه السلام‏:‏ «ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم»، ‏{‏ثم لا يموتُ فيها‏}‏ حتى يستريح ‏{‏ولا يحيا‏}‏ حياة تنفعه، و«ثم» للتراخي في مراتب الشدة؛ لأنَّ التردُّد بين الموت والحياة أفظع من الصليِّ‏.‏

‏{‏قد أفلحَ‏}‏ أي‏:‏ نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه ‏{‏مَن تَزَكَّى‏}‏ أي‏:‏ تطهّر من الكفر المعاصي بتذكيرك ووعظك، ‏{‏وذَكَرَ اسمَ ربه‏}‏ بقلبه ولسانه ‏{‏فصَلَّى‏}‏؛ أقام الصلوات الخمس، أو‏:‏ أفلح مَن زكَّى ماله، وذكر الله في صلاته، كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة لذكريا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ فيكون تفعَّل من الزكاة، أو‏:‏ أفلح مَن تزكّى‏:‏ أخرج زكاة الفطر وذكر اسم ربه في طريق خروجه إلى أن يخرج الإمام، فصَلّى صلاةَ العيد، وقد روي هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مدنية، أو‏:‏ إخباراً بما سيكون، إذ لم تُشْرَعْ زكاة الفطر، ولا صىلا العيد إلاَّ بالمدينة‏.‏

‏{‏بل تُؤْثِرون الحياةَ الدنيا‏}‏ على الآخرة، فلا تفعلون ما به تفلحون، وهو إضراب عن مُقَدَّر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح‏:‏ فلا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية، فتسعون لتحصِيلها وتشتغلون بذلك عن التزوُّد للأخرة، ‏{‏والآخرةُ خير وأبقى‏}‏ أي‏:‏ خير في نفسها، لنفاسة نعيمها، وخلوصه من شوائب التكدير، وأدوم لا انصرام له ولا تمام‏.‏

والخطاب للكفرة‏.‏ بدليل قراءة الغيب، وإيثارها حينئذ‏:‏ نسيانها بالكلية، والإعراض عنها، أو‏:‏ للكل، فالمراد بإيثارها‏:‏ هو ما لا يخلوا الناس منه غالباً، من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي، إلاّ القليل‏.‏ قال الغزالي‏:‏ إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان، قَلَّ مَن ينفك عنه، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل تؤثرون الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏والآخرة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ حال من فاعل ‏{‏تُؤثرون‏}‏ مؤكد للتوبيخ والعتاب، أ ي‏:‏ تؤثرونها على الآخرة والحال أنها خير منها وأبقى، قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والأمر بالعكس‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لفي الصُحف الأُولى‏}‏ الإشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح مَن تزكّى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأبقى‏}‏، قال ابن جزي‏:‏ الإشارة إلى ما ذكر قبل من الترهيب من الدنيا، والترغيب في الآخرة، أو‏:‏ إلى ما تضمنته السورة، أو‏:‏ إلى القرآن، والمعنى‏:‏ إنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين‏.‏ ه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صحف إِبراهيمَ وموسى‏}‏ بدل من «الصُحف الأُولى»‏.‏

وفي حديث أبي ذر‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏:‏ كم كتاباً أنزل اللهُ‏؟‏ قال‏:‏ «مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ما كانت صُحف إبراهيم عليه السلام‏؟‏ قال‏:‏ «كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسلّط المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لِتَرُدّ على دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو من كافر‏.‏ وكان فيها‏:‏ وعلى العاقل أن تكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يُفكر في صنع الله عزّ وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب‏.‏ وعلى العاقل ألاَّ يكون ظاعناً إلا لثلاث‏:‏ تزور لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم‏.‏ وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومَن حسب كلامه من عمله قَلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه» قلت‏:‏ يا رسول الله؛ فما كانت صُحف موسى عليه السلام‏؟‏ قال‏:‏ «كانت عِبَراً كلها؛ عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمَن أيقن بالقدر ثم هو ينصب أي يتعب، عجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمَن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل» قلت‏:‏ يا رسولَ الله؛ وهل في الدنيا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى، مما أنزل الله عليك، قال‏:‏

«نعم، اقرأ يا أبا ذر‏:‏ ‏{‏قد أفلح مَن تزكى‏.‏‏.‏‏}‏ الآية إلى السورة» ثم قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أوصني‏.‏ قال‏:‏ «أوصيك بتقوى الله عزّ وجل، فإنه رأس أمرك» قلت‏:‏ زدني، قال‏:‏ «عليك بتلاوة القرآن وذكرِ الله عزّ وجل، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض» قلت‏:‏ يا رسول الله؛ زدني، قال‏:‏ «إياك وكثرة الضحك، فإنه يُميت القلب، ويذهب بنور الوجه»، قلت‏:‏ يا رسول الله؛ زدني قال‏:‏ «عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي»، قلت‏:‏ يا رسول الله؛ زدني، قال‏:‏ «عليك بالصمت إلاَّ مِن خير، فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دنياك» ه‏.‏

وعن كعب الأحبار أنه قال‏:‏ قرأتُ في العشر صحف التي أنزل ا للهُ على موسى عليه السلام سبعة اسطار متصلة، أول سطر منها‏:‏ مَن أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على الله، الثاني‏:‏ مَن كانت الدنيا أكبر همه نزع اللهُ خوف الآخرة من قلبه، الثالث‏:‏ مَن شكى مصيبة نزلت به كأنما شكى الله عزّ وجل، الرابع‏:‏ مَن تواضع لِمَلِك مِن ملوك الدنيا ذهب ثلث دينه، الخامس‏:‏ مَن لا يبالي من أي الأبواب أتاه رزقه لم يُبال اللهُ من أي أبواب جهنم يدخله يعني من حلال أو حرام، السادس‏:‏ مَن أتى خطيئَة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي، والسابع‏:‏ مَن جعل حاجته إلى آدمي جعل اللهُ الفقر بين عينيه‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ فَذكِّرْ أيها العارف الدالّ على الله إن نفعت الذكرى؛ إن رجوتَ أو توهمتَ نفع تذكيرك، فإن تحققتَ عدم النفع فلا تتعب نفسك في التذكير، فربما يكون بطالة، كتذكير العدو الحاسد لك، أو المعاند، أو المنهمك في حب الرياسة، فتذكير هؤلاء ضرب في حديد بارد‏.‏ وينبغي للمذَكِّر أن يكون ذا سياسة وملاطفة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏ الخ، والحكمة‏:‏ هي أن تٌقر كلَّ واحد في حكمته، وتدسه منها إلى ربه، فأهل الرئاسة تقرهم فيها وتدلهم على الشفقة والرحمة بعباد الله، وأهل الدنيا تُقرهم فيها وتدلهم على بَذلها، وأهل العلم تُقرهم في علمهم وتحضهم على الإخلاص وبذل المجهود في نشره، وأهل الفقر تقرهم فيه وتُرغبهم في الصبر‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا، فإن رأيتَ أحداً تشوّف إلى مقام أعلى مما هو فيه فدُلّه عليه، وأهل التذكير لهم عند الله جاه كبير، فأحَبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، كما في الحديث‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ «إنَّ أود الأوداء إليَّ مَن يحبني إلى عبادي، ويحبِّب عبادي إليّ، ويمشي في الأرض بالنصيحة» أو كما قال عليه السلام‏:‏

‏{‏سَيذَّكَّر مَن يخشى‏}‏ أي‏:‏ ينتفع بتذكيري مَن يخشى الله، وسبقت له العناية، ويتجنّبها الأشقى‏:‏ أي‏:‏ ويعرض عنها مَن سبق له الشقاء‏.‏

قال القشيري‏:‏ الشقي‏:‏ مَن يعرف شقاوته، والأشقى‏:‏ مَن لا يعرف شقاوته، الذي يصلى النار الكبرى، وهي الخذلان والطرد والهجران، والنار الصغرى‏:‏ تتبع الحظوظ والشهوات‏.‏ ه‏.‏ ثم لا يموت فيها ولا يحيى، أي‏:‏ لا تموت نفسه عن هذا، ولا تحيا روحه بشهود هؤلاء‏.‏ قد أفلح مَن تَزَكَّى، أي‏:‏ فاز بالوصول مَن تطهَّر مِن هوى نفسه، بأن طَهَّر نفسه من المخالفات، وقلبه من الغفلات والدعوات، وروحه من المساكنات إلى الغير، وسره عن الأنانية، بل تُؤثرون الحياة الدنيا عن التوجُّه إلى الحضرة القدسية، والدار الآخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى، وهذا الأمر، وهو التزهيد في الدنيا، والتشويق إلى الله، في صُحف الرسل والأنبياء، قال القشيري‏:‏ لأنَّ التوحيد والوعد والوعيد لا يختلف في الشرائع‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ ‏(‏إنَّ هذا‏)‏ أي‏:‏ الخروج عما سوى الله بنعت التجريد، في صحف إبراهيم، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78‏]‏ والإقبال على الله، بقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ الخ‏.‏ وفي صحف موسى‏:‏ سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في المقامات‏:‏ بقوله‏:‏ ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 84‏]‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة الغاشية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏(‏1‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ‏(‏2‏)‏ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ‏(‏3‏)‏ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ‏(‏4‏)‏ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ‏(‏5‏)‏ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ‏(‏6‏)‏ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديثُ الغاشيةِ‏}‏ أي‏:‏ قد أتاك، والأحسن‏:‏ أنه استفهام أُريد به التعجُّب مما في حيّزه، والتشويق إلى استماعه، وأنه من الأحاديث البديعة التي من حقها أن تتناولها الرواية، ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد‏.‏ والغاشية‏:‏ الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها، من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 55‏]‏ الخ‏.‏

ثم فصّل أحوالَ الناس فيها، فقال‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ خاشعةٌ‏}‏، فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال من جهته صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل‏:‏ ما أتاني حديثها فما هو‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ‏}‏ أي‏:‏ يوم إذ غشيت ‏{‏خاشعة‏}‏؛ ذليلة، لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان، و‏{‏وجوه‏}‏ متبدأ، سوّغه التنويع، و‏(‏خاشعة‏)‏ خبر، و‏{‏عاملة ناصبة‏}‏‏:‏ خبران آخران، أي‏:‏ تعمل أعمالاً شاقة في النار، تتعب فيها مِن جرّ السلاسل والأغلال، والخوض في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط من تلال النار ووهادها، وقيل‏:‏ عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها، فهي يومئذ ناصبة منها، ‏{‏تَصلى‏}‏ أي‏:‏ تدخل ‏{‏ناراً حامية‏}‏؛ متناهية في الحر مُدداً طويلة، ‏{‏تُسْقَى من عينٍ آنيةٍ‏}‏ أي‏:‏ من عين ماء متناهية في الحرّ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجع إلى الوجوه، والمراد أصحابها، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعامٌ إِلاّ من ضريع‏}‏، وهو نبت يقال لِرَطْبِه‏:‏ الشَّبرِق على وزن زِبْرج، تأكله الإبل رطباً فإذا يبس عافته، وهو الضريع، وهم سمٌّ قاتل، وفي الحديث‏:‏ «الضريع شيء في النار، أمرُّ من الصبر، وأنتن من الجيفه، وأشد حَرًّا من النار»، وقال ابن كيسان‏:‏ هو طعام يضرعون منه ويذلّون، ويتضرعون إلى الله تعالى طلباف للخلاص منه‏.‏ وقال أبو الدرداء والحسن‏:‏ يقبح اللهُ وجوهَ أهل النار يوم القيامة، تشبيهاً بأعمالهم الخسيسة في الدنيا، وإنَّ الله تعالى يُرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون، فيُغاثون بالضريع، ثم يَستغيثون فيُغاثون بطعام ذي غُصّة، فيذكرون أنهم كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون، فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من غين آنية شديدة الحر، لا هنيئة ولا مريئة، فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلودَ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏ ه‏.‏ والعذاب ألوان، والمعذّبون طبقات؛ فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم آكلة الضريع‏.‏‏.‏ فلا تناقض‏.‏

ولمَّا نزلت هذه الآية؛ قال المشركون‏:‏ إنَّ إبلنا لتسمن من الضريع، فنزلت‏:‏ ‏{‏لا يُسمن ولا يُغني من جوع‏}‏ أي‏:‏ ليس مِن شأنه الإسمان والإشباع، كما هو شأن طعام أهل الدنيا، وأنما هو شيء يضطرون إلى أكله دفعاً لضرورتهم، والعياذ بالله من سخطه‏.‏

الإشارة‏:‏ الغاشية هي الدنيا، غشيت القلوب بظلمات محبتها، ومودتها بحظوظها وشهواتها، وجوه فيها يومئذ خاشعة، بذُلّ طلبها، عاملة بالليل والنهار في تحصيلها، ناصبة في تدبير شؤونها، لا راحة لطالبها أبداً حتى يأخذ الموت بعُنقه، تصلى نار القطيعة والبُعد تُسقى من عين حر التدبير والاختيار، ليس لطُلابها طعام لقلوبهم وأرواحهم إلاّ من ضريع شبهاتها أو حُرماتها، لا يُسمن القلب عن هزال طلبها، بل كلما زاد منها شيئاً، زاد جوعه إليها، ولا يغني الروح من جوع منها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 20‏]‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ‏(‏8‏)‏ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏10‏)‏ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ‏(‏11‏)‏ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ‏(‏15‏)‏ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ‏(‏16‏)‏ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ‏(‏17‏)‏ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ‏(‏18‏)‏ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ‏(‏19‏)‏ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله في بيان حال أهل الجنة، بعد بيان حال أهل النار، ولم يعطفهم عليهم، بل أتى بالجملة استئنافية؛ إيذاناً بكمال تباين مضمونيهما، فقال‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ ناعمةٌ‏}‏ أي‏:‏ ذات بهجة وحُسن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم ‏(‏24‏)‏‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 24‏]‏، ‏{‏لسعيها راضية‏}‏ أي‏:‏ لأجل سعيها في الدنيا هي راضية في الآخرة بما أعطاها عليه من الثواب الجسيم، أو‏:‏ رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب، ‏{‏في جنةٍ عالية‏}‏ علو المكان أو المقدار، ‏{‏لا تسمع فيها لاغية‏}‏ أي‏:‏ لغو، أو كلمة ذات لغو، أو نفسٌ لاغية، فإنَّ كلام أهل الجنة كله أذكار وحِكم، أو‏:‏ لا تسمع يا مخاطَب، فيمن بناه للفاعل‏.‏

‏{‏فيها عين جاريةٌ‏}‏ أي‏:‏ عيون كثيرة تجري مياهها، كقوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 14‏]‏ أي‏:‏ كل نفس، ‏{‏فيها سُررٌ مرفوعة‏}‏ رفيعة السمْك أو المقدار، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله رَبُّه من المُلك والنعيم، ‏{‏وأكواب موضوعة‏}‏ بين أيديهم ليتلذذوا بالرؤية إليها، أو موضوعة على حافات العيون مُعَدّة للشرب، ‏{‏ونمارقُ‏}‏؛ وسائد ومرافق ‏{‏مصفوفة‏}‏ بعضها إلى جنب بعض، بعضها مسندة، وبعضها مطروحة، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة، وأستند إلى أخرى، ‏{‏وزرابيّ‏}‏ أي‏:‏ بُسُط فاخرة، جمع «زِرْبيَّة»، ‏{‏مبثوثةٌ‏}‏؛ مبسوطة، أو مُفرّقة في المجالس‏.‏

ولمّا أنزل الله هذه الآيات وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فسّرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ، والأكواب الموضوعة لا تدخل تحت حساب، لكثرتها، وطول النمارق كذا، وعرض الزاربيِّ كذا، أنكر المشركون ذلك، وقالوا‏:‏ كيف يصعد على هذا السرير‏؟‏ وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة، وتطول النمارق هذا الطول، وتُبسط الزاربي هذا الانبساط، ولم نشهد ذلك في الدنيا‏؟‏‏!‏ ذكَّرهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون إِلى الإِبل كيف خُلقت‏}‏ طويلة عالية، ثم تبرك حتى تُركب؛ ويحمل عليها، ثم تقوم، وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء الإبل حتى يركب عليها، أو‏:‏ أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي نُصب أعينهم، يستعملونها كل حين، كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً عن سَنَن سائر الحيوانات، في عظم جثتها وشدّة قوتها، وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتي ما يصدر منها من الأفاعيل الشاقة، كالنوْء بالأوقار الثقيلة، وحمل الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً، واكتفائها باليسير، ورعيها كل ما تيسّر من شوك وشجر، وانقيادها إلى كل صغير وكبير، حتى إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها، فتبعتها الناقة إلى فم الغار‏.‏ وفي الإبل خصائص أُخر تدل على كمال قدرته تعالى، كالاسترواح مع الحَدَّاء إذا عيت، إلى ما فيها من المنافع من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار، وغير ذلك، والظاهر ما قاله الإمام، وتبعه الطيبي، من أنه احتجاج بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية، وأنَّ المخبر بها قادر عليها، فيتوافق العقل والنقل‏.‏

ه‏.‏ قاله المحشي‏.‏

‏{‏وإِلى السماء كيف رُفعت‏}‏ رفعاً بعيداً بلا عُمُد ولا مُسَّاك، أو بحيث لا ينالها فَهم ولا إدراك، ‏{‏وإِلى الجبال‏}‏ التي ينزلون في أقطارها، وينتفعون بمياهها وأشجارها في رعي تلك الإبل وغيرها ‏{‏كيف نُصبت‏}‏ نصباً رصيناً، فهي راسخة لا تميل ولا تميد، ‏{‏وإِلى الإرض كيف سُطحت‏}‏ سطحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق‏.‏

قال الجلال‏:‏ وفي الآية دليل على أنَّ الأرض سطح لا كرة، كما قال أهل الهيئة، وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع‏.‏ ه‏.‏ وفي ابن عرفة، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏ أنَّ الآية تدل على أنَّ السماء كروية قال‏:‏ لأنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما لاستحالة تعلقهما دون مكان‏.‏ ه‏.‏ وفي الأبي‏:‏ الذي عليه الأكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات والأرض كرتان‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ وجوه يومئذ ناعمة بلذة الشهود والعيان، لأجل سعيها بالمجاهدة، راضية، حيث وصَّلتها إلى صريح المشاهدة، في جنة عالية، جنان المعارف، لا تسمع فيها لاغية؛ لأنَّ أهلها مقدّسون من اللغو والرفث، كلامهم ذكر وصمتهم فكر، فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم والحِكم، فيها سُرر المقامات مرفوعة، يرتفعون منها إلى المعرفة، وأكواب موضوعة؛ كِيسَان شراب الخمرة، وهي محافل الذكر والمذاكرة، ونمارق مصفوفة، وسائد الرّوح والريحان حيث سقطت عنهم الكلف، ورموا حِملهم على الحي القيوم، وزرابي مبثوثة؛ بُسط الأنس في محل القدس، أفلا يستعملون الكفرة والنظرة، حتى تقيم أرواحهم في الحضرة، فإنَّ الفكرة سِراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهي سير القلب إلى حضرة الرب، فينظرون إلى الإبل كيف خُلقت فإنه تجلي غريب، وإلى السماء كيف رُفعت به، وإلى الأرض كيف سُطحت من هيبته، وقال‏:‏ القشيري‏:‏ الإبل‏:‏ النفوس الأمّارة، لقوله عليه السلام‏:‏ «الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة» ه وإلى الأرواح كيف رُفعت؛ لأنها محل أفكار العارفين، وإلى جبال العقل كيف نُصبت لتمييز الحس من المعنى، والشريعة من الحقيقة، وإلى الأرض البشرية كيف سُطحت، حيث استولت عليها الروحانية، وتصرفت فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ‏(‏21‏)‏ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ‏(‏22‏)‏ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ‏(‏23‏)‏ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ‏(‏26‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فَذَكِّر‏}‏ الناس بالأدلة العقلية والنقلية، ‏{‏إنما أنت مُذكِّّر‏}‏ ليس عليك إلاَّ التبليغ ‏{‏لستَ عليهم بمصيطرٍ‏}‏؛ بمسلط، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏قَ‏:‏ 45‏]‏، وفيه لغات‏:‏ السين، وهي الأصل، والصاد، والإشمام‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَن تولَّى وكَفَرَ فيعذبه اللهُ العذابَ الأكبر‏}‏، الاستثناء منقطع، أي‏:‏ لست بمُسلط عليهم، تقهرهم على الإيمان، لكن مَن تولى وكفر، فإنَّ لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر، وهو عذاب جهنم، وقيل‏:‏ متصل من قوله‏:‏ ‏(‏فذكر‏)‏ أي‏:‏ فذَكِّر إلاَّ مَن انقطع طمعك من إيمانه وتولَّى، فاستحق العذاب الأكبر، وما بينها اعتراض‏.‏

‏{‏إِنَّ إِلينا إِيابهم‏}‏؛ رجوعهم، وفائدة تقديم الظرف‏:‏ التشديد في الوعيد، وأنَّ إيابهم ليس إلاَّ للجبّار المقتدر على الانتقام، ‏{‏ثم إِنَّ علينا حسابهم‏}‏ فنُحاسبهم على أعمالهم، ونجازيهم جزاء أمثالهم، و«على» لتأكيد الوعيد لا للوجوب، إذ لا يجب على الله شيء‏.‏ وجمع الضمير في إيابهم وحسابهم، باعتبار معنى «من»، وإفراده فيما قبله باعتبار لفظها، و«ثم» للتراخي في الرتبة لا في الزمان، فإنَّ الترتيب الزماني إنما هو بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل للرسول يُقال لخلفائه من أهل التذكير، ومَن تولَّى منهم يُعذَّب بعذاب الفرق والحجاب وسوء الحساب‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة الفجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏وَالْفَجْرِ ‏(‏1‏)‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏(‏2‏)‏ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏4‏)‏ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ‏(‏6‏)‏ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ‏(‏7‏)‏ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ‏(‏8‏)‏ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ‏(‏9‏)‏ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ‏(‏11‏)‏ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ‏(‏12‏)‏ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والفجر‏}‏، إمّا وقته، أقسم به لشرفه، كما أقسم بالصُبح، لِمَا في ذلك من الاقتدار، أو‏:‏ صلاته؛ لكونها مشهودة، ‏{‏وليالٍ عشر‏}‏؛ عشر ذي الحجة، أو العشر الأُول من المحرم، أو الأواخر من رمضان، ونُكِّرت للتفخيم، ‏{‏والشفع والوتر‏}‏ أي‏:‏ شفع كل الأشياء ووترها، أو‏:‏ شفع هذه الليالي ووترها، أو‏:‏ شفع الصلوات ووترها، أو‏:‏ يوم النحر، لأنه اليوم العاشر، ويوم عرفة لأنه التاسع، أو الخلق والخالق، او صلاة النافلة والوتر بعدها، أو الأعداد؛ لأنَّ منها شفعاً ومنها وتراً، والمختار العموم، كأنه تعالى أقسم بكل شيء؛ إذ لا يخلو شيء من أن يكون شفعاً وهو الزوج، أو وتراً وهو الفرد، والوتر بالفتح والكسر لغتان‏.‏

ولمَّا أقسم بالليالي المخصوصة، أقسم بالليالي على العموم، فقال‏:‏ ‏{‏والليلِ إِذا يَسْرِ‏}‏ إذا ذهب، أو‏:‏ يسري فيه السائر، وقيل‏:‏ أُريد به ليلة القدر، وحُذفت الياء في الوصل؛ اكتفاءً بكسرتها، وسُئل الأخفش عن سقوطها، فقال للسائل‏:‏ لا أجيبك حتى تخدمني سنة، فسأله بعد سنة، فقال‏:‏ الليل لا يسري، وإنّما يُسرى فيه، فلمّا عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقةً‏.‏ ه‏.‏ ويرد عليه‏:‏ أنها حُذفت في كلمات كثيرة، ليس فيها هذه العلة‏.‏

‏{‏هل في ذلك‏}‏ أي‏:‏ فيما أقسمت به من هذه الأشياء ‏{‏قَسَمٌ‏}‏ أي‏:‏ مٌقسم به، أو إقسام، والمعنى‏:‏ مَن كان ذا لُبٍّ عَلِمَ أنَّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بان يُقسم به، وهذا تفخيم لشأن المقسَم بها، وكونها أموراً جليلة حقيقة بالإقسام بها لذوي العقول، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 76‏]‏ وتذكير الإشارة لتأويلها بما ذكر، وما فيها من معنى البُعد للإيذان ببُعد مرتبة المشار إليه، وبُعد منزلته في الشرف والفضل، ‏{‏لذي حِجْرٍ‏}‏؛ لذي عقل‏؟‏ سُمِّي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سُمِّي عقلاْ ونُهْيَةً لأنه يعقل صاحبه وينهاه عن الرذائل؛ والمعنى‏:‏ هل يحقُّ عند ذوي العقول أن تُعَظَّم هذه الأشياء بالإقسام بها‏؟‏ أو‏:‏ هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر، أي‏:‏ هل هو قسم عظيم يؤكّد بمثله المقسَم عليه‏؟‏ أو‏:‏ هل في القسم بهذه الأشياء قسم مُقنع لذي لُب وعقل‏؟‏ والمقسَم عليه محذوف، أي‏:‏ لتهلكنّ يا معشر الكفار ثم لتبنؤن بالحساب، يدلّ عليه قوله تعالى‏:‏

‏{‏ألم تَرَ كيف فعل ربُّك بعادٍ‏}‏ فإنه استشهاد بعلمه صلى الله عليه وسلم بما فعل بعاد وأضرابهم المشاركين لقومه صلى الله عليه وسلم في الطغيان والفساد، أي‏:‏ ألم تعلم علماً يقيناً كيف عذَّب ربُّك عاداً ونظائرهم، فيُعذّب هؤلاء أيضاً لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي، والمراد بعاد‏:‏ أولاد عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام، سُمُّوا باسم أبيهم، وقد قيل لأوائلهم‏:‏ عاد الأولى، ولآخرهم عاد الآخرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِرَمَ‏}‏ عطف بيان لعاد؛ للإيذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف، أي‏:‏ سبط إرم، أو‏:‏ أهل إرم، على ما قيل‏:‏ من أنَّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها، كقوله‏:‏

‏{‏وَسْئَلِ القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، ويؤيده قراءة ابن الزبير بالإضافة، ومنعت الصرف للتعريف والتأنيث، قبيلةً، كانت أو أرضاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذاتِ العماد‏}‏ صفة لإِرم، فإذا كانت قبيلة فالمعنى‏:‏ أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو‏:‏ طِوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، وإن كانت صفة للبلدة، فالمعنى‏:‏ أنها ذات عماد طِوال لخيامهم على قدر طول أجسامهم، رُوي‏:‏ أنها كانت من ذهب، فلما أرسل اللهُ عليهم الريح دفنتها في التراب، أو ذات أساطين‏.‏

رُوي‏:‏ أنه كان لعاد ابنان شدّاد وشديد، فمَلَكا وقَهَرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال‏:‏ أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينةٌ عظيمةٌ، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار، ولمَّا تمَّ بناءها سار إليها بأهل مملكته، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلةٍ، بعث اللهُ عليه صيحة من السماء فهلكوا، وقيل‏:‏ غطتها الريح بالرمل فما غمًّا عليها‏.‏ وعن عبد الله بن قلابة‏:‏ أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه ممّا ثمَّ، فبلغ خبره معاوية، فاستحضره فقصَّ عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال‏:‏ هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر، قصير، على حاجبه خال، وعلى عنقه خال، يرخج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة، فقال‏:‏ هذا واللهُ ذلك الرجل‏.‏ انظر الثعلبي‏.‏

‏{‏التي لم يُخْلَق مثلُها في البلاد‏}‏ أي‏:‏ مثل عادٍ في قوتهم، كان الرجل منهم يحمل الصخرة، فيجعلها على الحق فيهلكهم، وطُولِ قامتهم، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، أو‏:‏ لم يُخلق مثل مدينة «شدّاد» في جميع بلاد الدنيا، ذكر في القوت‏:‏ أنَّ بعض الأولياء قال‏:‏ دخلتُ مائة مدينة، أصغرها إرم ذات العماد، ثم قال‏:‏ وقوله تعالى على هذا‏:‏ ‏{‏لم يخلق مثلها في البلاد‏}‏ أي‏:‏ بلاد اليمن‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وثمودَ الذين جابوا الصَّخْرَ بالوادِ‏}‏ أي‏:‏ قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتاً، قيل‏:‏ أوّل مَن نحت الجبال والصخور ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينةٍ كلها من الحجارة، والمراد بالواد وادي القُرى، وقيل غيره‏.‏ والوادي‏:‏ ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيه ماء‏.‏

‏{‏وفرعونَ ذي الأوتاد‏}‏ أي‏:‏ وكيف فعل بفرعون صاحب الأوتاد، أي‏:‏ الجنود الكثيرة، وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي كانوا يضربونها في منازلهم إذا نزلوا، وقيل‏:‏ كان له أوتاد يُعذّب الناسَ بها، كما فعل بآسية‏.‏

‏{‏الذين طَغَوا في البلاد‏}‏؛ تجاوزوا الحدّ، والموصول إمّا مجرور صفة للمذكورين، أو منصوب، أو مرفوع على الذم، أي‏:‏ طغى كل طائفة منهم في بلادهم، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأكثَرُوا فيها الفسادَ‏}‏ بالكفر القتل والظلم، ‏{‏فصبَّ عليهم ربُّك‏}‏ أي‏:‏ أنزل إنزالاً شديداً على كل طائفة من أولئك الطوائف عقب ما فعلت من الطغيان والفساد ‏{‏سوطَ عذابٍ‏}‏ أي‏:‏ عذاباً شديداً لا يُدرك غايته وهو عبارة عما حلَّ بكل واحدٍ منهم من فنون العذاب التي بُينت في سائر السور الكريمة، وتسميته سوطاً؛ للإشارة إلى أنَّ ذلك بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة بمنزلة السوط عند السيف، والتعبير بالصب، للإيذان بشدته وكثرته، واستمراره، أي‏:‏ عُذِّبوا عذاباً دائماً مؤلماً، والعياذ بالله من أسباب المحن‏.‏

الإشارة‏:‏ أقسم تعالى بأول فجر نهار الإحسان، وتمام قمر نور الإيمان، ليلة العشر وشفعية الأثر، ووتر الوحدة، لتُسْتَأصلَن القواطع عمن توجه إليه بالصدق والإخلاص، ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد النفس الأمّارة العاتية، الشبيهة بعاد إرم ذات العماد في العتو، التي لم يُخلق مثلُها في البلاد؛ في بلاد القواطع، إذ هي أقبح من سبعين شيطاناً، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي‏.‏ القشيري‏:‏ يشير إلى ثمود القوة الشهوانية القاطعة لصخرات الشهوات الجثمانية، وفرعون ذي الأوتاد، يُشير إلى فرعون القوة الغضبية، وكثرة تباعته، وأنواع عقوباته وتشدداته‏.‏ ه‏.‏ فأكثَروا فيها الفساد، أي‏:‏ مدينة القلب، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب بأنواع المجاهدات والرياضات، ممن أراد الله تأييده وولايته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 20‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ‏(‏16‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏18‏)‏ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ‏(‏19‏)‏ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ربك لبالمرصاد‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ بحيث يرى ويسمع فلا يعزب عنه شيء، ولا يفوته أحد، فتجب مراقبته لا الغفلة عنه في الانهماك في حب العاجلة، كما أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏فأمّا الإنسان‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة لمَن بالمرصاد‏.‏ ه‏.‏ وأصل المرصاد‏:‏ المكان الذي يترقّب فيه الرَّصَد، أي‏:‏ الانتظار، مفعال، من‏:‏ رصَده، كالميقات من وقته، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة، وأنهم لا يفوتونه، قال الطيبي‏:‏ لمّا بيّن تعالى ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون حيث صَبَّ عليهم سوط العذاب، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ربك لبالمرصاد‏}‏ تخلُّصاً، أي‏:‏ فعل بأولئك ما فعل، وهو يرصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل، مما جاء به من الأمر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور والنهي عن سفسافها، ورذائلها، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب، ويُعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب، كما قال‏:‏ ‏{‏لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ثم فصّل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏فأمّا الإِنسانُ‏}‏، فهو متصل بما قبله، كأنه قيل‏:‏ إنه تعالى بصدد مراقبته أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شرًّا ‏{‏فأمّا الإنسان‏}‏ الغافل فلا يهمه ذلك، وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها، ‏{‏إِذا ما ابتلاه ربُّه‏}‏ أي‏:‏ عامله معاملة مَن يبتليه ويختبره ‏{‏فأكْرَمَه ونَعَّمه‏}‏، الفاء تفسيرية، فالإكرام والتنعُّم هو عين الابتلاء، ‏{‏فيقول ربي أكرمنِ‏}‏ أي‏:‏ فضّلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه، ولا يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر، وهو خبر المتبدأ الذي هو «الإنسان»، والفاء لما في «أمَّا» من معنى الشرط، والظرف المتوسط على نية التأخُّر، كأنه قيل‏:‏ فأمّا الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام، وإنما قدّمه للإيذان من أول مرة بأنّ الإكرام والتنعُّم بطريق الابتلاء‏.‏ ونقل الرضي أن «إذا» هنا جزائية، فقال‏:‏ وقد تقع كلمة الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء ثم استشهد بالآية، وقال‏:‏ والتقدير‏:‏ فمهما يكن من شيء فإذا ابتلاه يقول‏.‏ ه‏.‏ وقال المرادي‏:‏ إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب لأولهما، والثاني مقيد للأول، كتقييده بحال واقعة موقعه، ثم استشهد بما حاصله في الآية‏:‏ فأمّا الإنسان حال كونه مبتلى فيقول‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، فالشرط الثاني في معنى الحال، والحال لا تحتاج إلى جواب‏.‏ ه‏.‏ مختصراً انظر الحاشية الفاسية‏.‏

‏{‏وأمّا إِذا ما ابتلاه فَقَدَرَ عليه رزقَه‏}‏ أي‏:‏ ضَيّق عليه رزقه، وجعله بمقدار بلغته، حسبما تقتضيه ميشئته المبينة على الحِكَم البالغة ‏{‏فيقول ربي أهاننِ‏}‏، ولا يخطر بباله أنَّ ذلك لِيبلوه أيصبر أم يجزع، مع أنه ليس من الإهانة في شيءٍ بل التقتير قد يُؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما، فالواجب لمَن علم أنَّ ربه بالمرصاد منه أن يسعى للعاقبة، ولا تَهمّه العاجلة، وهو قد عكسن فإذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربي أكرمني وفضّلني بما أعطاني، فيرى الإكرام في كثرة الحظّ من الدنيا، وإذا امتحنه بالفقر، فَقَدَر عليه رزقه ليصبر، قال‏:‏ ربّي أهانني، فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا؛ لأنه لا يهمه إلاَّ العاجلة، وهو ما يلذّه وينعِّمه فيها، وإنما أنكر قوله‏:‏ ‏{‏ربي أكرمن‏}‏ مع أنه أثبته بقوله‏:‏ ‏{‏فأكرمه ونعَّمه‏}‏، لأنه قاله على قصد خلاف ما صحّحه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أن الله أعطاه إكراماً له لاستحقاقه، كقوله‏:‏

‏{‏إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ وإنما أعطاه الله ابتلاءً من غير استحقاق منه، فردّ تعالى عليه زعمه بقوله‏:‏ ‏{‏كلاَّ‏}‏ أي‏:‏ ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلّته، بل الإكرام في التوفيق للطاعة، والإهانة في الخذلان ف «كلا» ردع للإنسان عن مقالته، وتكذيب له في الحالتين، قال ابن عباس‏:‏ المعنى‏:‏ لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ، بل ذلك بمحض القضاء والقدر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل لا تُكرِمون اليتيمَ‏}‏ انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله، والالفتات إلى الخطاب؛ للإيذان بمشافهته بالعتاب، تشديداً للتقريع، وتأكيداً للتشنيع، والجمع باعتبار معنى الإنسان، إذ المراد به الجنس، أي‏:‏ بل لكم أحوال أشد شرًّا مما ذكر، وأدل على تهالككم على المال، حيث يُكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبّرة به‏.‏

‏{‏ولا تَحاضُّون على طعام المسكين‏}‏ أي‏:‏ يحض بعضُكم بعضاً على إطعام المساكين، ‏{‏وتأكلون التراثَ‏}‏ أي‏:‏ الميراث، وأصله الوُراث، فقلبت الواو تاء، ‏{‏أكلاً لمّا‏}‏ أي‏:‏ ذا لَمّ، وهو الجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يُورِثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم، ويأكلون كل ما تركه المُورّث من حلال وحرام، عالمين بذلك، ‏{‏وتُحبون المالَ حباً جماً‏}‏ أي‏:‏ كثيراً شديداً، مع الحرص ومنع الحقوق، ‏{‏كَلاًّ‏}‏ ردعٌ عن ذلك، وإنكارٌ عليهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إنَّ ربك لبالمرصاد، المطلع على أسرار العباد، العالم بمَن أقبل عليه أو أدبر عنه، ثم يختبرهم بالجمال والجلال، فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكْرَمه ونَعَّمَه في الظاهر، فيقول ربي أكرمني، ويبطر ويتكبّر، وأمّا إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني، ويقنط ويتسخّط، كَلاَّ لِينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما، وليعلما أنه اختبار من الحق، فمَن شكر النِعم وأطعم الفير والمسكين، وأبرّ اليتيم والأيم، كان من الأبرار، وإن عكس القضية كان من الفُجّار ومَن صبر على الفقر، ورضي بالقسمة، وفرح بالفاقة، فهو من الأولياء، ومَن عكس القضية كان من البُعداء، فَمن نظر الإنسان القصير ظنُ النقمة نعمة، والنعمة نقمة، فبسطُ الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوانٌ، وقبضها عنه أحسان، وفي الحكم‏:‏ «ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك»‏.‏ ثم زجر الحقُّ تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي، وعن محبة المال الفاني، وهو من فعل أهل الانهماك في الغفلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 30‏]‏

‏{‏كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ‏(‏21‏)‏ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ‏(‏22‏)‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ‏(‏23‏)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏كلا إِذا دُكَّتِ الأرْضُ‏}‏ أي‏:‏ زُلزلت ‏{‏دَكاً دَكاً‏}‏ أي‏:‏ دكاً بعد دكّ، أي‏:‏ كرّر عليها الدكّ حتى صارت هباءً منبثاً، أو قاعاً صفصفاً، ‏{‏وجاء ربُّك‏}‏ أي‏:‏ تجلّى لفصل قضائه بين عباده، وعن ابن عباس‏:‏ أمره وقضاؤه، ‏{‏والمَلكُ صفاً صفاً‏}‏ أي‏:‏ نزل ملائكة كل سماء فيصفون صفاً بعد صف محدقين بالإنس والجن، ‏{‏وجيء يومئذٍ بجهنمَ‏}‏، قيل‏:‏ بُرِّزت لأهلها، كقوله‏:‏ ‏{‏وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 91‏]‏ وقيل‏:‏ يجاء بها حقيقة، وفي الحديث‏:‏ «يؤتى بجهنم يومئذٍ، لها سبعونَ ألفَ زمامٍ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجرُّونها، حتى تنصب عن يسار العرش لها لغيط وزفير» رواه مسلم‏.‏

‏{‏يومئذ يتذكّرُ الإِنسانُ‏}‏ أي‏:‏ يتّعظ، وهو بدل من ‏(‏إذا دُكت‏)‏ والعامل فيه‏:‏ ‏(‏يتذكّر‏)‏ أي‏:‏ إذا دُكت الأرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر الإنسان ما فرّط فيه بمشاهدة جزائه، ‏{‏وأنَّى له الذِّكْرَى‏}‏ أي‏:‏ ومن أين له الذكرى‏؟‏ لفوات وقتها في الدنيا، ‏{‏يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي‏}‏ هذه، وهي حياة الآخرة، أي‏:‏ يا ليتني قدّمتُ الأعمالَ الصالحة في الدنيا الفانية لحياتي الباقية‏.‏

‏{‏فيومئذٍ لا يُعَذِّبُ عذابَه أحدٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يتولّى عذاب الله أحد؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم، ‏{‏ولا يُوثِقُ وثاقه أحدٌ‏}‏، قال صاحب الكشف‏:‏ لا يُعدِّب بالسلاسل والأغلال أحدٌ كعذاب الله، ولا يوثِق أحدٌ أحداً كوثاق الله‏.‏ وقرأ الأخوان بفتح الذال والثاء، بالبناء للمفعول، قيل‏:‏ وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف، وهو الكافر‏.‏ وقيل‏:‏ هو أُبيّ بن خلف، أي‏:‏ لا يُعذِّب أحدٌ مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده‏.‏

ثم يقول الله تعالى للمؤمن‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفسُ‏}‏ يخاطبه تعالى إكراماً له بلا واسطة أو على لسان ملك، ‏{‏المطمئنةِ‏}‏ بوجود الله، أو بذكره، أو بشهوده، الواصلة إلى بَلَج اليقين، بحيث لا يخالطها شك ولا وهم، وقيل‏:‏ المطمئنة، أي‏:‏ الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، ويؤيده‏:‏ قراءة مَن قرأ‏:‏ يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة‏.‏ ويقال لها هذا عند البعث، أو عند تمام الحساب، أو عند الموت‏:‏ ‏{‏ارجعي إِلى ربك‏}‏ إلى وعده، أو‏:‏ إلى إكرامه، ‏{‏راضيةً‏}‏ بما أُوتيت من النعيم ‏{‏مرضيةً‏}‏ عند الله عزّ وجل، ‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ أي‏:‏ في زمرة عبادي الصالحين المخلصين، وانتظمي في سلكهم، ‏{‏وادخلي جنتي‏}‏ معهم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ مع عبادي وبين عبادي‏.‏ أي‏:‏ خواصّي، كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالنفس‏:‏ الروح، أي‏:‏ وادخلي في أجساد عبادي، لقراءة ابن مسعود‏:‏ «في جسد عبادي» ولمّا مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُرَ على خلقته فدخل في نعشه، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفا قبره، ولم يُدْرَ مَن تلاها، وقيل‏:‏ نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل‏:‏ في خُبيْب بن عدي، الذي صلبه أهلُ مكة والمختار‏:‏ أنها عامة في المؤمنين؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا دُكت أرض الحس، باستيلاء المعنى عليها، أو أرض البشرية، باستيلاء الروحانية عليها، دكاً بعد دكٍّ، بالتدريج والتدريب، حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني، وجاء ربك، أي‏:‏ ظهر وتجلّى للعيان، والملَك صفاً صفاً، أي‏:‏ وجاءت الملائكة صفوفاً، وجيء يومئذٍ بجهنم، أي‏:‏ بنار البُعد لأهل الفرق، يومئذ يتذكّر الإنسانُ ما فاته من المجاهدة وصُحبة أهل الجمع، وأنَّى له الذكرى مع إقامته في الفَرْق طول عمره، يقول‏:‏ يا ليتني قدمتُ لحياتي؛ رُوحي بالمشاهدة بعد المجاهدة، فيومئذٍ يتولى الحق تصرُّفه في عباده بقدرته، فيُعَذِّب أهل الحجاب بسلاسل العلائق والشواغل، ويُقيدهم بقيود البين، ثم يُنادي روح المقربين أهل الأرواح القدسية‏:‏ يا أيتها النفس المطمئنة، التي اطمأنت بشهود الحق، ودام فناؤها وبقاؤها بالله، ارجعي إلى ربك؛ إلى شهود ربك بعد أن كنت عنه محجوبة، راضية عن الله في الجلال والجمال، مرضية عنده في حضرة الكمال، وعلامة الطمأنينة‏:‏ أنَّ صاحبها لا ينهزم عند الشدائد وتفاقم الأهوال، لأنَّ مَن كانت يده مع الملك صحيحة لا يبالي بمَن واجهه بالتخويف أو التهديد‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ النفس المطمئنة هي التي صدرت مِن نور خطاب الأول الذي أوجدها من العدم بنور القِدم، واطمأنت بالحق وبخطابه ووصاله، فدعاها الله إلى معدنها الأول، وهي التي ما نالت من الأول إلى الآخر غير مشاهدة الله، راضية من الله بالله، مرضية عند الله بالاصطفائية الأزلية‏.‏ ه‏.‏ والنفوس ثلاثة‏:‏ أمّارة، ولوّامة، ومطمئنة، وزاد بعضهم‏:‏ اللاّمة‏.‏ والله تعالى أعلم، صلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة البلد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا أُقسم بهذا البلد‏}‏؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام، وما عطف عليه على أنّ الإنسان خُلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ‏.‏ واعترض بين القسم وجوابه بقوله‏:‏ ‏{‏وأنت حِلّ بهذا البلد‏}‏، أي‏:‏ وأنت حالّ ساكن به، فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به، أو‏:‏ وأنت حِل، أي‏:‏ تُستحل حرمتُكَ ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة لا يَحل فيها قتل صيد ولا بشر، ولا قطع شجر وعلى هذا قيل‏:‏ «لا أٌقسم» نفي، أي‏:‏ لا أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية، وهذا ضعيف، أو‏:‏ وأنت حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت مِن قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ هذا البلد حرام، حرّمه اللهُ يومَ خلق السموات والأرض، لم يَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أُحل لي ساعة من نهارٍ»، يعني‏:‏ فتح مكة، وفيه أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل، وهو متعلّق بأستار الكعبة‏.‏

فإن قلتَ‏:‏ السورة مكية، وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة‏؟‏ قلتُ‏:‏ هو وعد بالفتح وبشارة‏.‏ انظر ابن جزي‏.‏ وكثير من الآيات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إلاّ بعد الهجرة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وغير ذلك‏.‏

‏{‏ووالدٍ وما وَلَد‏}‏ أي‏:‏ وآدم وجميع ولده، أو نوح وولده، أو إبراهيم وولده، أو إسماعيل ونبينا صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه حَرَمُ إبراهيم ومنشأ إسماعيل، ومسكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو محمد صلى الله عليه وسلم وولده، أو جنس كل والد ومولود‏.‏ ‏{‏لقد خلقنا الإِنسانَ‏}‏ أي‏:‏ جنسه ‏{‏في كبدٍ‏}‏؛ في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، يُكابد مشاق التعلُّم، ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم دنياه وآخرته، ثم يكابد نزع روحه، ثم سؤاله في قبره ثم تعب حشره، ومقاساة شدائد حسابه، ثم مروره على الصراط، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده، هذا في عموم الناس، وأمّا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق، فأسقطوا عنهم الأحمال؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة الأزلية، فلما أَسقطوا حِمْلَهم قام الله بأمرهم، لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏، يقال‏:‏ كَبِدَ الرجل كَبَداً‏:‏ إذا وجعت كبده من مرض أو تعب‏.‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ‏}‏ أي‏:‏ أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد، أو‏:‏ أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن قيل‏:‏ هو أبو الأشدّين الجمحي، رجل من قريش كان شديد القوة، مغترًّا بقوته، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه، ويقول‏:‏ مَن أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً، ولا تزال قدماه، وقيل‏:‏ عَمْرو بن عبد ود، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

‏{‏يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً‏}‏ أي‏:‏ كثيراً، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض، يريد كثرة ما أنفقه، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي، رياءً وفخراً‏.‏ ‏{‏أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ‏}‏ ‏؟‏ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه يعني‏:‏ أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه‏.‏

ثم ذكر نِعمه عليه، فقال‏:‏ ‏{‏ألم نجعل له عينين‏}‏ يُبصر بهما المرئيات، ‏{‏ولساناً‏}‏ يُعَبِّرُ به عما في ضميره، ‏{‏وشفتين‏}‏ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ أي‏:‏ طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ الآية‏.‏ وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد بل معنى الإلهام، أو‏:‏ الثديين، وأصل النجد‏:‏ المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد لارتفاعها عما انخفض من الحجاز‏.‏

الإشارة‏:‏ أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد‏:‏ في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني‏:‏ روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع‏.‏ قال الكواشي‏:‏ عن بعضهم‏:‏ الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ‏.‏ ه‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان‏.‏ أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا‏.‏ ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله‏؟‏ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فلا اقتحم العقبةَ‏}‏، الاقتحام‏:‏ الدخول بشدة ومشقة والعقبة‏:‏ كل ما يشق على النفس من الأعمال الصالحات، و«لا» هنا إمّا تحضيضية، أي‏:‏ هلاَّ اقتح العقبة، وإمّا نافية، أي‏:‏ فلم يشكر تلك الأيادي والنِعم، من البصر وما بعده، بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وما سيذكره، فإن قلت‏:‏ «لا» النافية إذا دخلت على الماضي ولم تكن دعائية وجب تكرارها‏؟‏ فأجاب الزمخشري‏:‏ بأنها مكررة في المعنى، أي‏:‏ فلا اقتحم ولا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

ثم عظَّم تلك العقبة بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العقبةُ‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء أعلمك ما هي العقبة التي أُمر الإنسان باقتحامها، أو نفي عنه اقتحامها‏؟‏ ثم فسّرها بقوله‏:‏ ‏{‏فَكُ رقبةٍ‏}‏ أي‏:‏ هي إعتاق رقبة أو إعانة في أداء كتابتها‏.‏ قال ابن جُزي‏:‏ وفك الأسارى من الكفار أعظم أجراً من العتق؛ لأنه واجب ولو استغرقت فيه أموال المسلمين، ولكنه لا يجزي في الكفارات‏.‏ ه‏.‏

‏{‏أو إِطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغَبةٍ‏}‏ أي‏:‏ مجاعة ‏{‏يتيماً ذا مقربةٍ‏}‏ أي‏:‏ قرابة، ‏{‏أو مسكيناً ذا متربةٍ‏}‏؛ ذا فقر، يقال‏:‏ ترِب فلان‏:‏ إذا افتقر والتصق بالتراب، ومَن قرأ «فكَ» و«أطعمَ» بصيغة الماضي فبدل من «اقتحم»، ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ اي‏:‏ دام على إيمانه، أو‏:‏ ثُم كان حين فعل ما تقدّم من المؤمنين فيحنئذ ينفعه ذلك، وإنما جاء ب «ثم» لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، إذ الإيمان هو السابق على غيره، إذ لا يقبل عمل صالح إلاّ به، ‏{‏وتَوَاصَوا بالصبرِ‏}‏ عن المعاصي وعلى الطاعات، أو‏:‏ المحن التي يُبتلى بهما المؤمن، ‏{‏وتَوَاصَوا بالمرحمةِ‏}‏؛ بالتراحم فيما بينهم‏.‏ ‏{‏أولئك أصحابُ الميمنةِ‏}‏ أي‏:‏ الموصوفون بهذه الصفات هم أصحاب اليمين واليمْن، ‏{‏والذين كفروا بآياتنا‏}‏؛ بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة، أو بالقرآن ‏{‏هم أصحابُ المشئمةِ‏}‏ أي‏:‏ الشمال أو الشؤم، ‏{‏عليهم نار موصدة‏}‏؛ مُطْبَقة، من أوصدت الباب وآصدته‏:‏ إذا أغلقته‏.‏

الإشارة‏:‏ هلاَّ اقتحم مريد الوصول العقبةَ، وهي سلوك الطريق، بخرق عوائد النفس وترك هواها وجَرِّها إلى مكروهها، وعن الحسن رضي الله عنه‏:‏ عقبة والله شديدة، يُجاهد الإنسانُ نفسَه وهواه، وعدوه الشيطان‏.‏ ه‏.‏ ثم فسَّرها بفك الرقبة، أي‏:‏ رقبة نفسه يفكها من أن يملكه السِّوى، أو‏:‏ يفكها من الذنوب والعيوب، أو فكها من رِقّ الطمع في الخلق، فإنه بذر شجرة الذل، أو‏:‏ فكها من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المكوِّن، أو‏:‏ فك رقبة الغافل الجاهل من رِقّ نفسه بتذكيره ووعظه أو تربيته، أو إطعام روح جائعة من اليقين، إمّا يتيماً لا أب له روحاني، أي لا شيخ له، فتذكِّره بما يتقوّى به إيقانه، أو فقيراً من أسرار التوحيد ترابيًّا أرضيًّا، فترقّيه إلى سماء الأسرار، ثم كان ممن آمن بطريق الخصوص، وتواصَى بالصبر على مشاق السير، والتراحم والتوادد والتواصل، كما هو شأن أهل النسبة، فهؤلاء هم أهل اليُمْن والبركة، وضدهم ممن جحدوا أهل الخصوصية هم أهل الشؤم‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏